رغم وقف إطلاق النار.. هجمات إسرائيل تعرقل الحياة في جنوب لبنان واتهامات حقوقية بجرائم حرب
رغم وقف إطلاق النار.. هجمات إسرائيل تعرقل الحياة في جنوب لبنان واتهامات حقوقية بجرائم حرب
في وقت كان من المفترض أن تمثل مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في لبنان فرصة لالتقاط الأنفاس وبدء ترميم ما خلّفته الحرب، يجد سكان جنوب لبنان أنفسهم أمام واقع أكثر قسوة، حيث طالت الهجمات الإسرائيلية المتكررة معدات إعادة الإعمار والمرافق المدنية، لتعيد المنطقة إلى دائرة الخوف وعدم الاستقرار، ودفع هذا الواقع منظمة هيومن رايتس ووتش إلى التحذير من أن تلك الهجمات تشكل انتهاكا صارخا لقوانين الحرب وترقى إلى جرائم حرب مفترضة، لما تحمله من استهداف مباشر لجهود إنسانية بحتة تهدف إلى إعادة الحياة إلى مناطق مدمرة.
تحذير حقوقي
في تقرير حديث، أكدت هيومن رايتس ووتش، الاثنين، أن الجيش الإسرائيلي شن هجمات متكررة على آليات ومرافق مدنية في جنوب لبنان، رغم سريان وقف إطلاق النار، معتبرة أن هذه العمليات غير قانونية ولا تستند إلى أي مبرر عسكري مشروع، وأشارت المنظمة إلى أن هذه الهجمات لا تستهدف فقط الحجر والمعدات، بل تضرب بشكل مباشر حق المدنيين في العودة الآمنة إلى منازلهم وإعادة بناء حياتهم بعد أشهر طويلة من النزوح والمعاناة.
إعاقة عودة النازحين
بحسب إفادات مسؤولين في بلديات محلية جنوب لبنان، فإن استهداف إسرائيل معدات إعادة الإعمار أدى إلى تعطيل واسع لعمليات إزالة الأنقاض وإصلاح البنى التحتية الأساسية، وأكد هؤلاء أن هذه الهجمات عرقلت عودة عشرات الآلاف من النازحين الذين ينتظرون منذ شهور فرصة العودة إلى قراهم وبلداتهم، وتشير تقديرات محلية إلى أن أكثر من 10000 مبنى تعرضت لأضرار جسيمة أو دمرت بالكامل في المنطقة الممتدة من الحدود الجنوبية خلال الفترة بين أكتوبر 2023 ويناير 2025، ما يجعل إعادة الإعمار حاجة ملحة وليست خيارا مؤجلا.
استمرار القصف رغم الهدنة
قال الباحث المختص بالشأن اللبناني في هيومن رايتس ووتش، رمزي قيس، إن القوات الإسرائيلية واصلت شن هجمات غير قانونية حتى بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، مستهدفة معدات ومرافق مرتبطة حصرا بجهود إعادة الإعمار، وأوضح أن ما يحدث يعكس توجها منظما لعرقلة محاولات السكان العودة إلى بلداتهم، بعد أن حولت العمليات العسكرية السابقة العديد من القرى الحدودية إلى أنقاض شبه كاملة.
أفادت المنظمة الحقوقية بأن الغارات الأربع التي وثقتها أدت إلى تدمير أكثر من 360 آلية ثقيلة، من بينها جرافات وحفارات تستخدم عادة في إزالة الركام وإعادة تأهيل الطرق والمنازل، كما شملت الأضرار مصنعا للإسمنت والإسفلت، يعد من المرافق الحيوية لقطاع البناء، وذكر مالكو مواقع الآليات الثقيلة أنهم باعوا أو أجروا هذه المعدات لاستخدامها في مناطق مختلفة من لبنان، وأن جزءا كبيرا منها كان مخصصا حصرا لأعمال مدنية تتعلق بإعادة الإعمار وإزالة آثار الدمار.
ذرائع عسكرية بلا أدلة
في كل مرة وقعت فيها هذه الهجمات، أصدرت القوات الإسرائيلية بيانات قالت فيها إن المعدات والمواد المستهدفة استخدمت أو كان من المزمع استخدامها من قبل حزب الله لإعادة بناء بنيته التحتية أو نشاطه العسكري، إلا أن هيومن رايتس ووتش شددت على أن هذه الادعاءات جاءت دون تقديم أي تفاصيل أو أدلة ملموسة تدعمها. واعتبرت المنظمة أن الاكتفاء بتصريحات عامة لا يفي بمتطلبات القانون الدولي الإنساني الذي يفرض التحقق الدقيق قبل استهداف أي موقع.
أكدت هيومن رايتس ووتش أنها لم تعثر، خلال تحقيقاتها الميدانية، على أي أدلة تشير إلى وجود أهداف عسكرية في المواقع المستهدفة أو في محيطها المباشر.
وتمكن الباحثون من التحقق من أن بعض الآليات والمستلزمات التي تعرضت للقصف كانت تستخدم بشكل واضح في أعمال مدنية، مثل إزالة الأنقاض وفتح الطرق وتأهيل الأراضي، وأضافت المنظمة أنه رغم عدم القدرة على التحقق من استخدام جميع المعدات التي تعرضت للهجوم، فإنها لم تجد أي دليل على استخدامها لأغراض عسكرية.
المدنيون يدفعون الثمن
توضح المنظمة الحقوقية أن حتى الحالات التي بيعت فيها معدات مدنية أو جرى صيانتها لأشخاص لهم صلات بحزب الله، لا تجعل تلك المعدات أو المواقع أهدافا عسكرية مشروعة، فالقانون الدولي الإنساني يميز بوضوح بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ويشدد على ضرورة حماية المدنيين وممتلكاتهم من الاستهداف، خصوصا في مرحلة ما بعد النزاع، واستهداف هذه المعدات، وفق المنظمة، يعني عمليا تحميل المدنيين كلفة سياسية وعسكرية لا علاقة لهم بها.
على الأرض، ينعكس هذا الواقع في قصص عائلات ما زالت تعيش في مساكن مؤقتة أو لدى أقاربها، بانتظار إزالة الركام من منازلها المدمرة. ويؤكد سكان محليون أن تأخير إعادة الإعمار يفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويزيد من معدلات الفقر والبطالة في مناطق تعتمد بشكل أساسي على الاستقرار الزراعي والتجاري، كما يحذر خبراء اجتماعيون من أن إطالة أمد النزوح قد تترك آثارا نفسية عميقة، خاصة على الأطفال وكبار السن.
دعوات للمساءلة
طالبت هيومن رايتس ووتش بفتح تحقيقات مستقلة وشفافة في هذه الهجمات، ومحاسبة المسؤولين عنها، مؤكدة أن الإفلات من العقاب يشجع على تكرار الانتهاكات، كما دعت المجتمع الدولي إلى ممارسة ضغوط حقيقية لضمان احترام القانون الدولي الإنساني وحماية الجهود المدنية لإعادة الإعمار، باعتبارها جزءا أساسيا من أي مسار نحو الاستقرار والسلام.
شهد جنوب لبنان منذ أكتوبر 2023 تصعيدا عسكريا واسعا أدى إلى دمار كبير في القرى والبلدات الحدودية، وتسبب في نزوح عشرات الآلاف من السكان، ومع إعلان وقف إطلاق النار، بدأت جهود محلية لإعادة الإعمار وإزالة الأنقاض، إلا أن هذه الجهود واجهت عراقيل متكررة نتيجة استهداف معدات مدنية حيوية، وينص القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك اتفاقيات جنيف، على ضرورة حماية الأعيان المدنية ومنع استهدافها، خاصة في فترات ما بعد النزاعات المسلحة، وتؤكد منظمات حقوقية دولية أن احترام هذه القواعد يشكل شرطا أساسيا لعودة المدنيين بكرامة وإعادة بناء المجتمعات المتضررة، وهو ما يجعل ما يحدث في جنوب لبنان موضع قلق متزايد على الصعيدين الإنساني والقانوني.











